الوصية الواجبة في القانون اليمني
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
انفرد قانون الأحوال الشخصية اليمني في إشتراطه فقر ابناء الأبن لإستحقاقهم الوصية الواجبة المقررة في المادة (259)، ومصطّلح الفقر في العصر الحاضر غير مطرد، ويثير إشكاليات عدة عند تطبيقه في الواقع ألعملي، مما يستدعي الإشارة إلى ذلك في سياق التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/12/2013م في الطعن رقم (50167)، حيث أن الحكم الابتدائي قد قضى بإستحقاق المدعين ابناء الأبن للوصية الواجبة، فقام المدعى عليه بإستئناف الحكم على أساس: (أن الحكم باطل لمخالفته المادة (259) أحوال شخصية التي قررت الوصية الواجبة، إذ اشترطت هذه المادة لصحة الوصية الواجبة أن يكون المستحق للوصية الواجبة فقيرا، في حين أنه من الثابت أن المطعون ضدهما غنيان بما آل إليهما إرثاً من ابيهما فقد بلغ إرثهما (12) قيراطاً في حين ان حصتي (المستأنف) ثمانية قيراط، وسندنا في ذلك هو فصل مورثهما كما ورد في شهادات الشهود أن للمستانف ضدهما أموال كثيرة))، وقد قضت الشعبة الاستئنافية برفض الاستئناف وتأييد الحكم الابتدائي معللة حكمها: ((بأن ما اثاره المستأنف في نعيه على الحكم الابتدائي مما لا يستوجب الأخذ به الأمر الذي أدى إلى طرح ذلك))، فقام المستأنف بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أمام الدائرة الشخصية متمسكاً بأن المطعون ضدهما لا يستحقا الوصية الواجبة من تركة جدته لأنهما غنيان، ولكن الدائرة الشخصية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: ((وعليه فإن أسباب الطعن متعلقة بموضوع النزاع الداخل أصلاً في إختصاص محكمة الموضوع،، وحيث أن الحكم محل الطعن جاء موافقاً في إستناده وما علل به للشرع والقانون، وكان موافقاً لنص المادة (259) من قانون الأحوال الشخصية بشأن الوصية الواجبة مما يستوجب رفض الطعن))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: إنفراد القانون اليمني في إشتراط فقر ابناء الأبن لإستحقاق الوصية الواجبة:
انفرد قانون الأحوال الشخصية اليمني في إشتراط فقر ابناء الأبن لإستحقاق الوصية الواجبة ، في حين لم يرد هذا الشرط في القوانين العربية التي نصت على الوصية الواجبة كالقانون المصري والمغربي والجزائري والسوري والعراقي والاردني والإماراتي وغيرها، حيث نصت المــادة(259) من قانون الاحوال الشخصية اليمني على أنه( اذا توفى اي من الجد أو الجدة عن ولده أو أولاده الوارثين وعن اولاد ابن أو أبناء الأبناء مانزلوا وكانوا فقراء وغير وارثين لوفاة آبائهم في حياته وقد خلفوا خيرا من المال ولم يقعدهم فيرضخ لهم مما خلفه بعد الدين كالتالي :-1—لبنات الأبن الواحدة أو أكثر مثل نصيب بنات الأبن الارثي مع بنت الصلب وهو السدس _2_ للذكور من اولاد الأبن الواحد اذا انفردوا أو مع اخواتهم بمثل نصيب ابيهم لو كان حيا بما لايزيد على الخمس. _3_ اذا تعدد المتوفون من الابناء عن اولاد لهم بنين وبنات فلكل صنف منهم مثل نصيب ابيهم لو كان حيا بحيث لا يزيد مايرضخ لمجموع الأصناف على الثلث، وفي كل الحالات الثلاث يشترط ان لاتزيد حصة الذكر أو الأنثى الواحد من اولاد المتوفين على حصة الذكر الواحد أو البنت من اولاد الصلب والا ألغيت الزيادة واقتصر لهم على مايتساوون به مع اولاد او بنات الصلب ويشترك المتعدد ن فيما تعين لهم لكل بقدر أصله وللذكر مثل حظ الانثيين، ويحجب كل اصل فرعه، وتقدم الوصية الواجبة على غيرها من الوصايا التبرعية) .
الوجه الثاني: الحكمة التي ابتغاها القانون اليمني من إشتراط فقر ابناء الأبن لإستحقاق الوصية الواجبة:
ذكر شيخنا المرحوم القاضي العلامة محمد بن يحيى المطهر: أن القانون اشترط هذا الشرط، لأن ابناء الأبن المستحقين للوصية الواجبة غير وارثين اصلا لأنهم محجوبون بأعمامهم، فقد يكون الأعمام وهم من الورثة فقراء، في حين يكون ابناء الابن اغنياء، لان الله سبحانه وتعالى لم يكتب الوصية الواجبة الا اذا ترك الجد خيرا، فإذا لم يكن ابن الأبن فقيرا انتفت الحكمة من تشريع الوصية الواجبة له ، فليس من المقبول أن يرضخ من إرث الأعمام الفقراء الوارثين كوصية إلى ابناء الأبن الأغنياء وهم غير ورثة، لأن الحكمة في تشريع الوصية الواجبة لأبناء الأبن معالجة فقرهم حتى لا يؤرث ذلك في قلوبهم الحقد على أعمامهم خاصة أن والدهم ربما كان له دور في تنمية تركة أبيه.
الوجه الثالث: تعريف الفقر والفقير في الفقه الإسلامي:
لم يعرف قانون الأحوال الشخصية الفقير المستحق للوصية الواجبة، ولذلك فإن المرجع في ذلك كتب الفقه الإسلامي التي عرفت الفقر والفقير بصفة عامة
فالفقيرفي اللغة هو المحتاج وهو ضدَّ الغِنَى، والفقير: مكسور فقار الظَّهر، وهو مشتقٌّ من انفقار الظَّهر، أي انكسار فقاره، فكأنَّ الفقير مكسور الظَّهر من شدَّة حاجته، والفقيرهو الَّذي يجد ما يأكل، والمسكين مَنْ لَا شيء له، وقد اختلف الفقهاء بشأن الفرق بين الفقير والمسكين، فقال الماوردي ان في هذه المسألة ستة اقوال، الاول: "أنَّ الفقير: المحتاج المتعفِّف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السَّائل والثَّاني: أنَّ الفقير هو ذو الزَّمانة من أهل الحاجة، والمسكين: هو الصَّحيح الجسم منهم، والثَّالث: أنَّ الفقراء هم المهاجرون، والمساكين: غير المهاجرين، والرَّابع: أنَّ الفقير من المسلمين، والمسكين: من أهل الكتاب، والخامس: أنَّ الفقير الَّذي لا شيء له؛ لأنَّ الحاجة قد كسرت فقاره، والمسكين الَّذي له ما لا يكفيه لكي يسكن إليه، والسَّادس: أنَّ الفقير الَّذي له ما لا يكفيه، والمسكين: الَّذي ليس له شيء يسكن إليه"
ولا شكَّ أنَّ تعريف الفقر شرعًا عند الفقهاء يتوقَّف على آرائهم فـي موضـوع الصَّدقات، وتوزيعها على مستحقِّيها، فالفقر أوَّل صفة يستوجب المتَّصف بها الأخذ من الـصَّدقات، وقد اختلف العلماء في معنى الفقر، وحدَّه الَّذي يجيز الأخذ من الصَّدقة، وحد الغنى الَّـذي لا يجوز معه الأخذ منها على عدَّة أقوال:
القَوْلُ الأَوَّلُ: ذهب الإمام أبو حنيفة وبعض الزيدية إلى أنَّ الفقر هو عدم ملك نصاب الزَّكاة؛ لأنَّ النَّبِـيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ - قد سمَّى مَنْ ملك النِّصاب غنيًّا، وذلك في قوله لمعاذ بن جبل: "فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُم أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّـاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِم" ، ووجه استدلالهم بهذا الحديث أنَّ رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ -وصف الَّذين تؤخذ منهم الزَّكاة بالغِنَى، ومَنْ تـُدْفع إليهم الزَّكاة بالفقر، ومن المعلوم أنَّ الزَّكاة لا تجب إلَّا على مَنْ ملك النِّصاب، فإذا كان الأغنيـاء هم أهل النِّصاب؛ وجب أن يكون الفقراء ضدَّهم.
القَوْلُ الثَّانِي: حيـث حـدَّد أصحاب القول الثَّاني القدر الَّذي يوصف معه الغنيُّ بالغِنى، والفقيـر بالفقر عن طريق تحديد مبالغ مالية، كما يأتي:
١- فذهب أحمد بن حنبل والثَّوري، وابن المبارك : بأنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يكون للـشَّخص خمـسون درهما، أو قيمتها من الذَّهب، وحد الغنى أن يكون للمرء خمسون درهمًا، أو قيمتها مـن الـذَّهب، واستدلَّ أصحاب هذا القول بما رواه الدَّار قطني عن عبد الله بن مسعود عن النَّبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ -قـال: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِرَجُلٍ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا"
٢- وذهب الحسن البصريُّ إلى أنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يملك الإنسان الأربعين درهما، أو قيمتها من الذَّهب، واستدلَّ الحسن البصريُّ بما رواه عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ -يقـول: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ"
٣- وقال قوم: إنَّ حدَّ الفقر شرعًا ألَّا يملك المرء عشاء ليلة، وحدَّ الغِنَى عكسه، وقـد رُوِيَ هـذا القَوْلُ عن عليٍّ - كرم اللَّهُ وجهه - .
وقد احتجَّ أصحاب هذا القول بحديث الإمام عليٍّ- كرم اللَّهُ وجهه - عن النَّبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ -أنَّه قال: "مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضَفِ جَهَنَّـمَ، قَالُـوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا ظَهْرُ الغِنَى؟ قَالَ: "عَشَاءُ لَيْلَةٍ"
القول الثَّالث: ذهب مالك، والشَّافعي -رحمها الله- إلى أنَّ حدَّ الفقر شرعًا هو ألَّا يملك الإنسان ما يكفيه من المال، وحدَّ الغني عكس ذلك، لكن أصحاب هذا الرَّأي قد اختلفـوا فـي تحديـد وبيـان الضَّابط لما يكفي الإنسان من المال ، فقال الإمام الشَّافعي: هو أقلُّ ما يمكن أن يطلق عليه اسم أنَّه يكفي، وقال مالك بأنَّه ليس في ذلك حدَّ معيَّن، وإنَّما هو راجع إلى الاجتهاد، والإمام الشَّافعي- رَحِمَهُ اللهُ - قد رأي أنَّه مَنْ كان قويًّا على الكسب، والتَّحرُّف مـع قـوَّة البـدن، وحسن التَّصرُّف حتَّى يغنيه ذلك عن النَّاس؛ فالصَّدقة عليه حرام ، واحتجَّ بحديث النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ - "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سوي ، " وهكذا فقد استدلَّ كلُّ فريق بما توفَّر بين يديه من أدلَّة شرعيَّة، والقول المناسب في العصر الحاضر هو القول الذي يذهب الى أنَّ حدَّ الفقر عدم ملك الإنسان لما يكفيه مـن مال مع تقييد هذا الحدِّ أيضًا بعدم القدرة على
الكسب، والعمل ليخرج بذلك المسكين الَّذي يأتيه مال لا يكفيه مع كونه يعمل. اما الفَقْرُ فِي اصْطِلَاحِ الاقْتِصَادِيِّينَ: فله عدَّة معان منها: الفقر يعني العجز عن إشباع الحاجات الأساسيَّة أو الضَّروريَّة، الفقير هو مَنْ لا يمتلك شيئًا، والشُّعوب الفقيرة هي الشُّعوب الَّتي يكون أغلب مواطنيها من المعد مين أو الفقر: انخفاض الدَّخل عن مستوى معيَّن في السَّنة، الفقر :إحساس الفرد، أو الشَّعب بأنَّه يعيش عند مستوى يقلُّ عمَّا يعيش عنده أفراد، أو شعوب أخرى، ويعني ذلك أنَّ الفقر مسالة نسبيَّة، الفقر: بمعنى انعدام الرَّفاهية، أو انخفاض مستوى المعيشة، الفقر بمعنى انعدام الحيلة، وانعدام القدرة على التَّعبير، ممَّا يحدِّد من قدرة الفقير على الاختيار، والاستفادة من الفرص، أو هو عجز موارد الفرد المالية عن الوفاء بحاجته الاقتصادية، وخلاصة القول: ان الفقر يدور مفهومه حول "الحرمان النِّسبيِّ" لفئة معيَّنة من فئات المجتمع، فالفقير إلى الشَّيء لا يكون فقيرًا إليه إلَّا إذا كان في حاجة إليه، وهنا تظهر أهمِّيَّة البعد المادِّيِّ في تحقيق الحاجات من مأكل، وملبس، ومسكن وغيره.
الوجه الرابع: التلازم بين شرط الفقر وشرط ان ترك خيرا في استحقاق الوصية الواجبة:
كان قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...}[سورة البقرة آية (180)] هو الدليل القوي لدى الفقهاء الذين ذهبوا إلى تقرير الوصية الواجبة، وهذه الآية الكريمة كانت أيضاً الدليل الذي استندت إليه غالبية قوانين الدول العربية التي فرضت الوصية الواجبة في قوانينها، ومن هذه الآية الكريمة استفاد الفقهاء شرط: ان ترك الجد المال الكثير حتى يستحق ابناء الأبن الوصية الواجبة، وقد ذهب الفقهاء إلى أن المقصود من قوله تعالى: (أن ترك خيراً) هو: أن لا يتجاوز بالوصية الثلث وأن لا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة، وقال الفقيه يوسف بن أحمد بن عثمان صاحب الثمرات اليانعة الجزء الأول ص٣٦٠( أن العلماء اختلفوا في قدر (خيراً) المذكور في الآية الكريمة السابق ذكرها على أقوال: فقال: قتادة ألف درهم، وقال النخعي من خمسمائة إلى ألف درهم، وقال: بن عباس: ثمانمائة، وقال الأمام علي: أربعة آلاف درهم، وقالت عائشة: أربعمائة، وقيل أنه على قدر حال الرجل وقدر عوّله وصححه القاضي، لأن شخصاً قد يوصف بأنه غني بقدر من المال ولا يوصف به آخر لكثرة الانفاق، وقال الحسن وعمرو بن عبيد: يكون للأقرب إليه وإن كان غنياً، وقال ابن مسعود وواصل بن عطاء: يكون للأحوج)، ومن خلال ما تقدم يظهر لنا التلازم فيما بين الشرطين: أن تكون التركة زائدة وان يكون ابناء الأبن فقراء – وهذا الأمر يتفاوت من تركة إلى تركة ومن ابناء ابن إلى أبناء ابن اخرين ، فالفقر يقاس على قدر التركة الزائدة، ولذلك فإن القضاء في اليمن يرضخ لابناء الأبن الوصية الواجبة على أساس أن الفقر شرط نسبي وان الأصل ان جميع أبناء الأبن فقراء الا ان إذا كان غنى أبناء الأبن ظاهرا وثابتا أمام القضاء يزيد كثيرا على تركة جدهم ، والله اعلم