بطلان البيع للتدليس في القانون اليمني
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
مبدا حسن النية عند إبرام العقود والتصرفات مبدأ إسلامي أصيل، فالمسلم
مأمور شرعاً بإحسان الظن والنية وان يتعامل في كل شئونه بحسن نية قال تعالى {
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا...} [سورة النور12] كما أن القانون المدني قد نص على
قاعدة حسن النية ضمن القواعد العامة الحاكمة للعقود والتصرفات،ومع ذلك فان هناك
ثقافة سائدة في المجتمع اليمني تناهض مبدا حسن النية وتتعامل مع الشخص الحسن
النية على انه غبي وان الشخص السيء النية المخادع المحتال على انه ذكي وشاطر،
فثقافة المغالطة والاحتيال ثقافة مدمرة وخطرة تهدر القيم الدينية والاخلاقية كما
انها تقوض العقود والتصرفات وتعطل الالتزامات القانونية التي تفترض القوانين ان
يتم تنفيذها من قبل الأشخاص بحسن نية، فتطبيق القوانين والعقود ينبغي ان يتم بحسن
نية ،وقد نصت كافة القوانين في العالم على مبدأ حسن النية، ولذلك فان إصلاح
التشريعات والعقود في اليمن ينبغي ان يتزامن مع نشر الثقافة الحقوقية وتكريس وغرس
الثقافة التي تنبذ المحتالين والمغالطين والتي تنظر إلى ان المواطن الصالح الجدير
بالاحترام هو الذي ينفذ التزاماته القانونية والعقدية بحسن نية، ومع ان المجتمع
اليمني كله ضحية لثقافة الاحتيال والمغالطة إلا أن اكثر ضحايا المغالطة هي الفئات
الضعيفة في المجتمع مثل النساء والاميين، وقد كشف الحكم محل تعليقنا كيف يتم
الاحتيال على النساء والاستيلاء على انصبتهن في التركات وكيف يتم الاحتيال عليهن
وكيف يتعامل القضاء مع العقود المعيبة بعيب الاحتيال، فالحكم محل تعليقنا هو
الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
10/8/2016م في الطعن رقم (57806)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان
احد الورثة قام بإعداد كشف ذكر فيه مخاريج موت المورث والديون القائمة على المورث
،وقد ذكر ان إجمالي المبالغ المدونة في ذلك الكشف تساوي قيمة موضع زراعي تركه
المورث، وطلب الشخص الذي اعد الكشف من ابنة المورث ان تبيع نصيبها في ذلك الموضع
مقابل مساهمتها في سداد ديون والدها ومخاريج موته،فقامت الابنة بالبيع وبعد مدة
تقدمت الابنة بدعوى إبطال عقد البيع للتدليس والاحتيال حيث اوهمها المشتري عن
طريق الكشف الذي اعده بان على والدها ديون كثيرة وان مصاريف موته قد استغرقت
مبالغ كبيرة، وقد قضت المحكمة الابتدائية بإبطال عقد البيع الصادر من المدعية
لعيب التدليس على البائعة، وقد أيدت الشعبة المدنية الحكم الابتدائي ثم أقرت
الدائرة المدنية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فما
اثاره الطاعن يعتبر مجادلة في الموضوع الذي تختص به محكمة الموضوع دون معقب عليها
من المحكمة العليا طالما قد اقامت قضائها على أسباب سائغة تكفي لحمله، فمحكمة
الموضوع قد استندت على ان ثمن المبيع ليس الثمن الحقيقي إستناداً إلى شهادة شاهدي
العقد كما استندت إلى ان الكشف الذي اعده الطاعن واعتبر الثمن المزبور فيه هو ثمن
عقد البيع اعتبرته الشعبة ومن قبلها محكمة أول درجة مستند قد تطرق اليه الاحتمال
وبطل به الاستدلال واستنتجت من كل ذلك بان الطاعن قد دلس واحتال على المطعون ضدها
وبموجب ذلك قضت محكمة الموضوع ببطلان المبيع) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب
ماهو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: التدليس عيب من عيوب الارادة يجيز إبطال العقد:
التدليس عيب من عيوب الارادة يجيز إبطال العقد حسبما قضى الحكم محل تعليقنا الذي
استند إلى المادة179مدني التي نصت على أنه (إذا عمد أحد المتعاقدين إلى تغرير
(تدليس) كان من الجسامة بحيث لولاه لما ابرم الطرف الثاني العقد لا يصح العقد
ويكون للطرف الثاني طلب الحكم بإبطال العقد كما يكون له إبقائه واذا مضت ثلاث
سنوات بعد إنكشاف وبدونالتغرير دون طلب الإبطال وبدون مانع من الرد الفوري فلا
تسمع الدعوى بشأنه وتعتبر كل حيلة يلجاء إليها احد المتعاقدين تغريراً) ومن خلال
إستقراء هذا النص وتطبيقه على القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان
المشتري وهو من اقارب البائعة الأمية المسنة قد قام بإعداد كشف ضمنه الديون التي
زعم انها بذمة والدها وكذا مخاريج دفن والدها حيث تعمد تضخيم تلك المبالغ التي لا
وجود لها في الواقع ،فقد عجز عن اثباتها حين طلبت منه المحكمة ذلك، وبالمقابل فقد
شهد شاهدا العقد بان المبالغ التي كتبها المشتري في الكشف كانت اقل بكثير من قيمة
الأرض، فقد كان الكشف هو وسيلة التدليس على المرأة الأمية التي ظنت ان المبالغ
المدونة في الكشف اكثر من قيمة الأرض حيث قامت بوضع بصمتها على وثيقة البيع وهي
تشكر للمشتري معروفه، وبناءً على ذلك فقد كانت إرادة المرأة البائعة معيبة بعيب
التدليس المنسوب للمشتري نفسه، فلولا تدليسه لما قامت بالبيع، فالتدليس كان
مؤثراً في ارادة البائعة حيث دفعها إلى البيع لاسيما ان البائعة امرأة أمية تحول
الظروف والعادات الاجتماعية دون قيامها بمراجعة ما ورد في الكشف الذي ابرزه
المشتري كما انها لا تستطيع الخروج من بيتها للسؤال والتأكد من صحة الارقام
والبيانات الواردة في ذلك الكشف، فالتدليس حسبما ورد في النص السابق عيب من عيوب
الارادة حيث ينبغي ان تكون الارادة او الرضاء عماد العقد الذي ينعقد بالإيجاب
والقبول الصادرين من المتعاقدين برضاهما واختيارهما من غير تدليس او تأثير على
ارادتهما.
الوجه الثاني: حجية الكشف المعد من قبل المشتري:
كان الكشف الذي اعده المشتري بخطه هو محور القضية لانه كان وسيلة التدليس على
البائعة حيث ثبت لمحكمة الموضوع عدم صحة ذلك الكشف وبموجبه فقد تحقق عيب التدليس
كعيب من العيوب التي تجيز إبطال العقد،فلو كان ذلك الكشف صحيحاً لما وقع التدليس
ولما قضى الحكم بإبطال العقد بسبب التدليس، وقد توصل الحكم محل تعليقنا إلى عدم
صحة الكشف لأسباب عدة اهمها ان البائع قد اعد الكشف بخطه في حين أنه من المقرر في
قواعد الإثبات انه لا يجوز للشخص ان يصطنع دليلاً لنفسه إضافة إلى ان البائع
المتمسك بالكشف قد عجز عن إبراز المستندات المؤيدة للقيود الحسابية الواردة في
الكشف لان الكشف عبارة عن تلخيص لما ورد في المستندات الأصلية التي تثبت الديون
ومخاريج الموت، فمثلاً الديون المدونة في الكشف كان ينبغي على البائع ان يقدم سند
الدين أو الإقرار الصادر من المورث بذلك الدين للدائن وهكذا.
الوجه الثالث: عيب الغبن في البيع الصادر من البائعة إلى المشتري: اشار
الحكم محل تعليقنا إلى ان شاهدا البيع قد شهدا بان القيمة الفعلية للأرض المباعة
كانت أكثر بكثير من المبلغ الذي احتسبه المشتري في الكشف المشار اليه على افتراض
صحة الكشف فالمبلغ المذكور في الكشف والذي تم ذكره في بصيرة الشراء يقل كثيرا عن
القيمة الحقيقية للارض المبيعة، وهذا غبن فاحش يجيز للبائعة الادعاء بإبطال البيع
للغبن الفاحش ، فالغبن حسبما ورد في المادة (181) مدني هو أن يكون احد العوضين
غير متعادل مع العوض الآخر ويكون كذلك إذا بلغ الفارق عشر القيمة، فالفارق بين
المبلغ الوارد في الكشف والبصيرة ومبلغ القيمة الحقيقية للارض اكثر بكثير من
العشر،والله اعلم
بطلان البيع للتدليس في القانون اليمني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق